خاطر من جانب المدفأة....

إنه البرد..يتسلل إلى العظام فيخزها لترتجف الأطراف وتصطك الفكان ، فيهرع الإنسان المجبول على الضعف فارا نحو الأوار ناشداً فيه الدفء..
وما أن ينعم بالدفء وتسكن روحه بعد فزع وتحمر وجنتاه حتى تستيقظ رغائبه فتخزه معدته طالبة ما يسلي وحشتها فيلقم المدفأة حبات الكستناء والبطاطا ، ويملأ الإناء بالماء ليمتطي الجمرات المتقدة استعدادا لصنع القهوة..
وبعد قضم الكستناء والبطاطا المشويتان يترع فنجانه بالقهوة السوداء اللذيذة ذات النكهة الذكية ويبدأ بارتشافها بنهم ولذة فتمور الدماء في أوصاله مطالبة بقوت لحظتها من (الكيف) فيستسلم لرغبة الدماء ويشعل سيجارة رغم صيحات العقل والمنطق بضرر التدخين في جو مغلق ، ولكنه يتذرع بالخوف من وحش البرد المدمدم على الشرفة ، ويقر عينا بهذه الذريعة
وفي غمرة الأنس بتحقيق الرغائب جلها يتساءل :
-ماذا بعد
فتصمت ذاته راضية وغير راضية في آن
كان الدفء أقسى ما تمناه ، حتى إذا نعم به استيقظت رغائب أخرى فأشبعها جميعا ..فماذا بقي...
اصطكت الجمار في الموقد لفرط الحر ..أتراها تذكره بجهنم؟
وذكرى جهنم: عينة عن الحياة الآخرة...
والآخرة تفتح آفاقاً للتفكر في الحياة..
فتدندن النفس:
كنا أطفالا
ما أروع ما كنا
لكنا
في فلك الأقدار كبرنا
وتعبنا
من دوران الكون تعبنا
فجلسنا
نلتقط الأنفاس قليلا
وسألنا أنفسنا
عن فرحٍ مات بأعيننا
لكن الأنفس لم تنبس
بجوابٍ يبهج أنفسنا
فالأماني تبدأ بريئة كالطفولة: حلم بقطف النجوم في سلة ، والتهام قضمة من السحاب المشابة لحلوى (غزل البنات)
ثم ينمو الطموح وينضج ليختزل الفرح في انتظار لحظة التخرج من المدرسة
حتى إذا سطع بريقها...تحولت الأماني إلى انتظار التخرج من الجامعة والذي يعتبر بوليصة تأمين للحياة ..وأمانا من الجهل والفاقة معا..
ومن رحاب الجامعة إلى أروقة العمل مرورا بمنعطفات الأقدار تولد أمنية الزواج وتأسيس البيت الخاص
ثم الولد الذي يحمل الإسم ..
ومع صرخة الوليد ...يعود التساؤل:
-ثم ماذا؟
روي عن السيد المسيح -عليه السلام قوله للحواريين: ( يا معشر الحواريين..أيستطيع أحدكم أن يبني على سطح البحر دارا؟
أجابوا: يا روح الله ، ومن منا يستطيع ذلك؟
قال: (فكذلك الدنيا..لا تتخذوها قرارا..واجعلوها قنطرة..اعبروها ولا تعمروها)
وسؤل يوما: (يا روح الله..ألا تتخذ حمارا لحاجتك؟ فأجاب: أنا أكرم عند الله من أن يشغلني عنه بشيئ)
فهي نفوس ونفوس ، وأرواح وأرواح في تعاطيها مع الحياة ليس وفق المفاهيم المختلفة ، بل وفق الأنفس التي تدرك أو لا تدرك: بطلان المجد الدنيوي ، ورقاعة الأماني الإنسانية