الشورى فى القرآن الكريم
أوجب الله سبحانه وتعالى الشورى على الأمة فى آيتين ، ورد فيهما النص صريحاً على وجوب اتباع هذا المبدأ .
فالنص الأول جاء فى صورة أمر للرسول e ، فمن باب أولى تكون أمته مأمورة به .
والثانى بَيَّن أن من صفات المؤمنين الأساسية أنهم يتصرفون فى الأمور ، ويقررون الآراء ، بالتفاهم والمشاركة وتبادل الرأى : أى بالشورى([3]) .
ومن ناحية أخرى فقد حفل القرآن الكريم بالشورى ، وجعلها عنصرا من العناصر التى تقوم عليها الدولة الإسلامية ، ففى الكتاب الكريم سورة عرفت باسم ((سورة الشورى)) ، وقد سميت بذلك ؛ لأنها السورة الوحيدة التى قررت الشورى عنصراً من عناصر الشخصية الإيمانية الحقة ، ونظمتها فى عقد حياته : طهارة القلب بالإيمان ، والتوكل ، وطهارة الجوارح من الإثم
والفواحش ، ومراقبة الله بإقامة الصلاة ، وحسن التضامن بالشورى ، والإنفاق فى سبيل الله ، ثم عنصر القوة بالانتصار على البغى والعدوان([4]) .
وجدير بالذكر أن الاتفاق على تسمية هذه السورة بسورة الشورى يحوى أهمية الشورى كأساس من أسس التعايش بين المؤمنين فى المجتمع المسلم على جميع المستويات([5]) .
وهاتان هما الآيتان :
الآية الأولى : قوله تعالى : {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر}([6]) .
هذه الآية كما هو معروف نزلت بعد غزوة أحد وبمناسبتها . ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان قد استشار أصحابه فيما يفعل ، فأشار الشباب ومن لم يحضر بدراً بالخروج لملاقاة جيش الأعداء ، وأشار بعض الصحابة بأن يتحصن المسلمون بالمدينة ، وأن يتولوا الدفاع من دورها وحاراتها . وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يميل إلى هذا الاتجاه ، ولكن الاتجاه الأول حظى بتأييد أغلبية المسلمين ، وبخاصة من لم يحضروا بدراً رجاء أن ينالوا ما ناله البدريون من شرف ، وخرج الرسول e بالمسلمين إلا أن الهزيمة كانت من نصيبهم . ومع هذا نزلت الآية الكريمة { فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر} ، أى : لا يحملنك ما كان من نتائج المشاورة على أن تتركها بل شاورهم فى الأمر .
وهذا يدل على أن الله سبحانه وتعالى يريد أن تكون سياسة المسلمين قائمة على مبدأ الشورى فلا يستبد بها فرد([7]) .
وقال ابن جرير فى تفسيره : ((وأولى الأقوال بالصواب أن يقال ان الله عز وجل أمر نبيه بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه تألفاً منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرة التى يؤمن عليه من فتنة الشيطان ، وتعريفا منه أمته باقى الأمور التى تحزبهم من بعده ، ومطلبها ليقتدوا به عند النوازل التى تنزل بهم ، فيتشاوروا فيما بينهم كما كان فى حياته e يفعله ، فأما النبى
فإن الله كان يعرفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه وإلهامه إياه صواب ذلك ، وأما أمته فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله فى ذلك على تصادق ، وتآخ للحق ، وإرادة جميعهم للصواب من غير ميل إلى هوى ولا حيدة عن هدى ، فإن الله مسددهم وموفقهم([8]) .
وقد قال بهذه الرأى كذلك الحسن إذ يقول : قد علم الله أنه ما به إليهم حاجة ، ولكنه أراد قاعدة شرعية لما أمر الله بها .
وينقل القرطبى([9]) فى هذه الآية أربعة أقوال :
أحدها : أنه أمر بمشاورتهم فى الحروب ليستقر لهم الرأى الصحيح . قال الحسن : ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم .
والثانى : أنه أمر بمشورتهم تألفاً لهم ، وتطييباً لأنفسهم ، قاله قتادة .
والثالث : أنه أمر بمشورتهم لما علم فيها من الفضل ، قاله الضحاك .
والرابع : أنه أمر بمشورتهم ليستن به المسلمون ، ويتبعه المؤمنون وإن كان عن مشورتهم غنيا ، قاله سفيان . قال : وحمل ابن عباس هذه المشاورة على المناظرة عند القتال فأمره بمناظرتهم ليتبين لهم الصواب ، فعدل بها عن ظاهرها ، وجعل مشاورته لهم مشورة منه عليهم .
وقال صاحب الكشاف([10]) : {فى الأمر} : أى فى أمر الحرب ونحوه ، مما لم ينزل عليك فيه وحى ، لتستظهر برأيهم ، ولما فيه من تطييب نفوسهم ، والرفع من أقدارهم . وعن الحسن k : قد علم الله أنه ما به إليهم حاجة ، ولكنه أراد أن يستن به من بعده . وعن النبى صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم : ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم . وعن أبى هريرة k : ((ما رأيت أحداً أكثر مشاورة من أصحاب الرسول e)) .
وقال الرازى([11]) فى تفسيره مثل هذا ، ومما جاء فى كلامه أن المشاورة مأخوذة من قولهم : شرت العسل أشوره : أخذته من موضعه ، واستخرجته . ثم بين وجوه الفائدة من أمر الله سبحانه رسوله بالشورى . ومن هذه الوجوه ما رواه عن الحسن وسفيان بن عيينة أنهما قالا : ((إنما أمر (أى الرسول e) بذلك ليقتدى به غيره فى المشاورة)) وأشار إلى معنى دقيق ، هو أن هذه الآية الكريمة نزلت عقب ما ابتلى به المسلمون يوم أحد ، ومع أن ما وقع فى ذلك اليوم قد أبان أن رأى من أشار على الرسول e بالخروج لم يكن صواباً ، فإن الله سبحانه وتعالى قد أنزل الأمر بالعفو عنهم ومشاورتهم أيضاً : أى أن الأمر هو أمر بالاستمرار فى مشاورتهم ، بالرغم مما ظهر من خطأ رأيهم ، وهذا يؤكد أهمية الشورى ، وبين مقدار عناية الدين بها . ومن الوجوه التى ذكرها المفسر أيضاً أن الرسول e أمر بالشورى ، لا لأنه محتاج إلى آراء من يستشيرهم ، ولكن لأجل أنه إذا شاورهم فى الأمر اجتهد كل واحد منهم فى استخراج الوجه الأصلح ، فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها . ثم قال : ((وتطابق الأرواح الطاهرة على الشىء الواحد مما يعين على حصوله . وهذا هو السر عند الاجتماع فى الصلوات ، وهو السر فى أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد)) .
ويرى بعض الباحثين أن النص فى الآية جاء فى صورة أمر للرسول e فمن باب أولى أن تكون أمته مأمورة به([12]) .