الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، وبعد :< xml="true" ns="urn:schemas-microsoft-com:office:office" prefix="o" namespace="">
فالشورى : القرار الملزم الصادر من الجماعة .
والشورى تعلق بكل ما يخص نظم الجماعة سواء المتعلقة بشئونها الاجتماعية أم السياسية أم التنظيمية أم المالية ، وليست الشورى خاصة بالشئون السياسية وحدها .
ومن جهة أخرى فإن حق الفرد فى الشورى نابع من حريته وحقوقه الإنسانية التى يستمدها من فطرته الآدمية ، ومن شريعة الله تعالى .
والمشورة والاستشارة : هى تبادل الرأى فى غير إلزام . ويدخل فى المشورة والاستشارة : النصيحة ، والفتوى ، والاستشارة العلمية والقانونية .
وقد تستعمل الشورى بهذا المعنى الأخير أيضا ، فيكون لها معنيان أحدهما خاص عرفى يستعمل أساسا فى المجال السياسى . والآخر واسع وعام يستعمل فى كافة المجالات .
الشورى - على الرأى الراجح كما سيأتى - ملزمة ، أما المشورة والاستشارة
فهى اختيارية .
وتمتاز الشورى فى الإسلام بالشمول حيث لا يقتصر ذلك على حق الأفراد فى المشاركة فى القرار الملزم الصادر عن الجماعة ، بل تتجاوز ذلك إلى المشورة الاختيارية واستشارة أهل الخبرة وتبادل النصيحة ، حيث يندب الإسلام الجميع إلى الاستشارة والتناصح قبل الإقدام على الأمر سواء تعلق بالفرد أو الجماعة ، فالشورى شعيرة إسلامية مندوب لها الجميع لتدريب الأفراد والجماعات على تبادل الرأى بحرية كاملة واحترام متبادل .
لقد درج كثيرون على اعتبار الشورى مبدأ يقوم عليه نظام الحكم ، ويقيد سلطة الحكام ، بينما يجب اعتبارها نظرية عامة شامة للمبادئ التى تقوم عليها حرية الأفراد ، وحقوق الشعوب ، وتضامن المجتمع فى جميع النواحى السياسية والاجتماعية والمالية والاقتصادية وغيرها .
فالشورى فى الإسلام مبدأ إنسانى أولا ، واجتماعى وأخلاقى ثانيا ، ثم هى قاعدة دستورية لنظام الحكم ، ولذلك فإن نطاق تطبيقها واسع شامل .
كما أن النظرية العامة للشورى تشمل تطبيقها فى مجال الفقه ، ولا يخفى ما للإجماع والاجتهاد من دور فى استنباط الأحكام الشرعية ، ولا تقل أهمية الشورى فى هذا المجال عن أهميتها فى المجال السياسى .
ويمكننا أن نصف شريعتنا بأنها شريعة الشورى بالقدر نفسه الذى نصفها بأنها شريعة
السماء ، فالشريعة الإسلامية كما أنها شريعة إلهية من حيث مصادرها السماوية ، فإنها تعتمد أيضا على مصادر اجتهادية كالإجماع والاجتهاد اللذين يعتمدان على الشورى .
والمنبع الإلهى للشريعة يفرض سيادة الشريعة على المجتمع والدولة ، وما دامت الشريعة هى التى فرضت الشورى ، فإن الشورى تكون أسمى من الدولة ، وبذلك تحررنا من فلسفات الفقه الأوربى الذى يجعل الدولة صاحبة سلطة التشريع الوضعى الذى يمكن للحكام اتخاذه وسيلة لتحكم فى حريات الأفراد وحقوقهم بحجة أن القانون الوضعى هو إرادة الدولة التى يمثلونها .
إن استقلال الشريعة كان معناه دائما استقلال الشورى الفقهية والعلمية ، فلما تتدخل النظم السياسية طوال تاريخنا فى الشورى الفقهية ، ولا تستطيع ذلك لاستقلال الشريعة ، وهذا يدل على أن اتهام دول الخلافة الناقصة بأنها عطلت الشورى فيه بعض الغلو ، لأنه يجب إنصافهم بالاعتراف لهم باحترام مبدأ الشورى فى الفقه ، ولم يتدخلوا فى التشريع كما تفعل الدول العصرية اليوم ، ولم يدع أحد منهم سلطة التشريع التى تدعيه اليوم النظم الحاكمة فى أصغر الدول .
ويجب أن نعترف بأن الذى مكن المة من إلزامهم بذلك هو تمسكها بالطابع السماوى الإلهى للشريعة ، الذى يحرم الحكام من سلطة التشريع ، ولا ننسى أن الفقه الإسلامى يقصر عمل الحكومة فى نطاق السلطة التنفيذية .
ولهذا فى الفقه الدستورى الإسلامى يقوم على مبدأ سيادة الشريعة واستقلالها وهيمنتها على المجتمع والدولة ، ومن ثم فكل عرض لأصول الحكم فى الإسلام لا يكون صحيحا إلا فى ضوء استقلال الشريعة وحمايتها لحقوق الإنسان ، وحرية الشورى فى افقه التى هى حصن حقوق الإنسان وحرية العوب وسلطانها ، فاستقلال الشريعة وحرية الشورى الفقهية هما محور النظام الإسلامى وليست أحكام الإمامة أو الخلافة التى نجدها فى كتب الفروع الفقهية .
ولقد رسمت الشرعية الإسلامية حدودا للشورى ليس لها أن تتجاوزها ، وهى حدود ثابتة خالدة طالما بقى الإسلام وبقيت شريعته ، بخلاف الديمقراطية فإنها لا تعرف الحدود الثابتة .
بخلاف الشورى حيث هناك ثوابت لا يمكن تجاوزها بدءا من وجوب سيادة الشرعية ، واستقرار ما يعرف بالمعلوم بالدين بالضرورة مما لا يجوز تغيره ، ولا التنكر له ، والفواصل القاطعة بين الثابت الذى لا يمكن تغييره ، والمتغير القابل للاجتهاد والتغيير ، ففى الإسلام ليس كل شىء مطروحا للنقاش .
فارتباط الشورى بالشريعة يجعلها خاضعة لمبادئها الأخلاقية الثابتة ، وملتزمة بسيادة
الشريعة ، وأصولها وشمولها .
ومن هنا فإن الشورى شرعية ، أى : قررها الشرع ، وهى ملتزمة به .
ومن هنا أيضا فإن الشورى ليست تشريعا مستقلا ، بل منضبط بالشريعة الإسلامية .
والشورى بذلك هى الحصن الذى يجب أن تحتمى به أصول نظم الحكم الإسلامية ، وخاصة فى عصرنا الحاضر بعد أن خرجنا من ظل العظمة الواقعية التى كانت أظلتنا بها ضخامة دولة الخلافة الموحدة ، حينما كانت صورتخا العملاقة تخفى عن الناس نقصها الناتج عن انحراف الحكام عن تطبيق مبدأ الشورى فى اختيار الحكام ، كما أن هذه الانحرافات ما زالت تخفى عن بعض الباحثين أن حضارتنا التزمت فعلا بحرية الشورى فى الفقه والعديد من المجالات فى جميع عصور الخلافة الناقصة التى سادت العالم الإسلامى بعد عهد الراشدين .
وإذا كانت عظمة دول الخلافة الناقصة قد صرفت جماهيرنا عن مقاومة الانحرافات التى شابت نظم السلاطين ، الذين استولوا على الحكم بغير الشورى ، فإن بُعْد دول الخلافة الناقصة عن الشورى قد صرف بعض الباحثين المعاصرين عن أهم مزايا تلك النظم الناقصة ، وهو عدم ادعائها سلطة التشريع ، وحصر سلطتها فى تنفيذ الشريعة ، وعدم تعطيلها للشورى الحرة فى الاجتهاد والإجماع ، وهذا أهم ما يميز تلك النظم عن النظم الوطنية المعاصرة التى تأثرت بالمبادئ
الغربية ، وجعلت التشريع سلطة من سلطات الدولة ، دون تقيد بأصول الشريعة ومصادرها .
إن ما حققته الحضارة الإسلامية من قوة وعظمة فى عهود الخلفاء والسلاطين الذين يوصفون اليوم بالاستبداد سببه التزامهم بمبدأ سيادة الشريعة ، ونجاح الأمة وعلمائها فى فرض حرية الفقه عليهم ، مما جعل استبداد الحكام فى الماضى لا يصل إلى ما وصل إليه طغيان حكام اليوم ، الذين يستخدمون سلطة التشريع الوضعى وسيلة ضد حقوق الأفراد وحرياتهم ، وبقوة القانون .
بينما يشهد الواقع المعاصر أن أكثر الدول تباهيا بديمقراطيتها هى أكثر الدول عدوانا وفسادا فى الأرض ، ويتم ذلك بقرارات ديمقراطية جدا ، وبعد تشاور حر يرضى أهواءهم ومصالحهم دون التزام بمبدأ إلهى أو أخلاقى أو إنسانى .
إن الإسلام عندما فرض الشورى بعد ختم رسالة الأنبياء جميعا قد اعتبر أن الإنسانية قد بلغت رشدها ، ووصلت بها إلى الرقى الاجتماعى الذى يمكن الشعوب من تقرير مصيرها وإدارة شوؤنها .
إن تقرير مبدأ الشورى فى القرآن الكريم كان إيذانا بعهد جديد لفنسانية الرشيدة ، تقيمه الشورى على أساس حق الشعوب فى تقرير مصيرها ، ولذلك فالإسلام يوجب الشورى فى جميع جوانب حياة المجتمع.
والشورى فى الإسلام ليست نظرية سياسية وحسب ، أو قاعدة لدستور الحكم ، بل إنها الأساس الشرعى لنظام المجتمع ، الذى يلتزم بحقوق الإنسان ، وسلطان الأمة ، والتضمان الاجتماعى .
لذلك فإن دراسة الشورى ليست محدودة فى نطاق نظام الحكم الإسلامى ، ولا المبادئ السياسية العامة التى تقيد سلطة الحكام ، كما هو الشأن فى النظريات الديمقراطية التى تحصرها الدراسات العصرية فى نطاق العلوم السياسية أو القوانين الدستورية أو نظام الدولة .
بل الشورى أعمق من ذلك وأوسع نطاقا ، فكما تستمد منها الأمة وحدتها وسلطانها يستمد منها المجتمع تضامنه وتكافله .
كما أن مبدأ الشورى فى شريعتنا يلتزم بأهم أصول الشريعة ، وهو : استقلال الشريعة عن الحكم والحكام ، وتطبيق هذا الأصل يستوجب أن تكون الشورى فى نطاق الفقه هى تبادل للرأى مستقل ومنفصل عن الشورى فى مجال السياسة ، مما يعنى أن تقلبات السياسة التى قد تعطل الشورى فى مجالها ، لا تنعكس بالضرورة على الشورى فى نطاق الفقه ؛ وهذا ما حمى فقه الشريعة طوال التاريخ الإسلامى من آثار انحراف نظم الحكم عن الالتزام بالشورى السياسية ، فتاريخنا الإسلامى لم يشهد ما نراه اليوم فى النظم الوضعية التى يستطيع فيها من يستولى على السلطة أن يغير الدساتير والقوانين ، ولا يكتفى بتغيير نظام الحكم ، والتحكم فى
الإدارة والجيش .
وأساس الشورى : كيان الجماعة وحقوقها ومسئوليتها مستمد من تضامن مجموع الأفراد ، ومبدأ الشورى يعنى أن كل قرار ينسب للجماعة يجب أن يكون تعبيرا عن إرادة جمهور الجماعة ، أو مجموع أفرادها بشرط أن يتمتع الجميع بحرية كاملة فى المعارضة والمناقشة ، بل
والامتناع أيضا .
فأساس الشورى أن حرية الفرد فى الجماعة تعطيه حقه الفطرى فى المشاركة فى كل ما يخص الجماعة ، فالحرية حق أساسى لجميع الأفراد ، ولهم حق ممارسته على قدم المساواة ، والمساواة لا يمكن أن يتمتع بها الجميع إلا بالعدالة .
ولهذا فالشورى لا بد أن تستند إلى العدالة التى تقيم توازنا دقيقا بين حرية الأفراد والجماعات من ناحية ، وبين وجود سلطة عامة .
وبذلك تكون الشورى ميزانا تمثل الحرية إحدى كفتيه ، والسلطة والحكم الكفة المقابلة لها ، وتركتز كلتاهما على محور شرعى ثابت من أصول الشريعة مبادئها ، ولا يمكن للسلطة أن تفرض قيودا على الحريات....
والفهم العميق الشامل لمبدأ الشورى ليس مصدره مجرد اجتهاد فقهى ، أو نظرية مبتكرة ، بل تفرضه نصوص صريحة قاطعة فى القرآن الكريم .
ومن جهة أخرى فإن الشورى ليست هدفا لذاتها ، وإنما هى مشروعة فى الإسلام كوسيلة لتحقيق العدل ، وتنفيذ مقاصد الشريعة . وقد تميزت شريعتنا بأنها تربط الشورى بالعقيدة والشريعة {الذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم} .
والأخذ بمبدأ الشورى يعنى حرية الفكر والرأى والكتابة والنشر والإعلام ، وهذا يستلزم القضاء على احتكار الدولة ومؤسساتها للصحافة والإعلام بوسائله المتعددة .
إن النظرة الشاملة للشورى فى مجال الفقه والحكم فى شريعتنا تكشف لنا أن للشورى دورها الخطير فيما يتعلق بحريات الأفراد وحقوق الإنسان ؛ لأنها تجعل الفرد - وليس الحكومة - هو صاحب الدور الأول فى المجتمع الملتزم بالشورى ، سواء فى التشريع أو فى السياسة ، فالفرد هو الذى يقوم بالاجتهاد فى الفقه ، وهو الذى يفوض أهل الحل والعقد لكى يمثلوا الأمة ، فالفرد يمارس السلطات الإنسانية فى المجتمع ، وإذا كان لا بد من كيان أكبر من الفرد تنسب إليه السلطة والولاية فهو الأمة ، التى هى مكونة من مجموع الأفراد ، فالأمة هى صاحبة السلطان ، والشورى هى إرادة الأمة([1]).
كاسك حبيبي